التأطير الإعلامي وتوجيه الرأي العام

التأطير الإعلامي وتوجيه الرأي العام

 

قبل بضع سنوات، خرج متظاهرون في أحد كبرى المدن الأمريكية من أصحاب البشرة السمراء يطالبون بحقوقهم وبالمساواة في توفير الوظائف على حد وصفهم، بينما كانت الشرطة تحاول احتواءهم لوجود مخربين بينهم قاموا بكسر المحال التجارية. ونظراً لتزايد عدد المتظاهرين يوماً بعد يوم، بدأت وسائل الاعلام الامريكية بتغطية الأحداث، حتى قامت أحد كبرى قنواتها التلفزيونية المعروفة بتخصيص قرابة 6 دقائق على الهواء مباشرة للموضوع، وهي مدة جيدة نسبياً بالنظر لحجم القناة وتأثيرها.

تضمنت التغطية تقريراً مصوراً لمراسل القناة الميداني، الذي سرد بحيادية مطالب المتظاهرين كما ذكروها. كما استضافت القناة أحد قادة مُنظمي التظاهرات للحديث عن مطالبهم والرد على إدعاءات تخريب المرافق والممتلكات العامة، وبهذا تكون القناة قد حققت شروط الطرح المحايد كما يفترض به أن يكون.

ورغم أن التغطية بدت محايدة للوهلة الأولى، إلا أن المتلقي قد يلاحظ تناقضاً ضمنياً. فالتقرير المصور الذي تحدث خلاله المراسل عن مطالب المتظاهرين، كان يركز بأغلبيتهم على لقطات تخريب السيارات وتكسير المحال التجارية وسرقة بعضها، مما يرسم صورة سلبية للمتظاهرين في أذهان المشاهدين، مهما كان محتوى النص المقروء.

كذلك وعند استضافة أحد قادتهم كانت الأسئلة عن رأيه بالتخريب، وأسبابه ودوافعه بوجهة نظره، فأجاب بالاستنكار وان ذلك لا يمثل المتظاهرين الذين خرجوا للتظاهر بسلمية، ليتفاجئ بانتهاء المقابلة دون إعطاءه فرصة الحديث عن المطالب الأساسية التي خرج المتظاهرون من أجلها، مما أدى إلى تحييد القضية الأساسية وتوجيه الحوار نحو زاوية التخريب والعنف.

هذه التقنية أو “التكنيك” نابع من نظرية “التأطير الإعلامية”، والتي تعتمد على بناء سردية متركزة على زاوية معينة من القصة، مُستشهدةً بحقائق وأرقام وصور تدعمها. وفي تلك الزاوية، يمكن استضافت الرأي المؤيد والمعارض، والنقاش بكل أريحية وشفافية، فلا بأس طالما أن الموضوع يبقى في سياق الزاوية التي اخترتها، مما يقود المشاهد للتفكير والتعمق فيها، وإغفال الجانب الأكبر. وبهذا يتم تجاهل الزوايا الأخرى من القصة، وتهميش مناصريها.

هذا النوع من التغطيات، وغيرها الكثير، يعيد طرح التساؤلات حول مدى حيادية وسائل الإعلام وجديتها في نقل الصورة الكاملة بدقة وشفافية وكما هي في الحقيقة. ففي المثال السابق، وعندما كانت الزاوية المُسلط عليها الضوء موجهة نحو أحداث الشغب والتخريب، غاب السياق الأوسع للمظاهرات والمطالب الحقيقية للمتظاهرين. هذا التوجيه ليس مجرد انتقاء للأحداث، بل هو إعادة تشكيل للحقيقة بما يتوافق مع رؤية معينة.

الأمثلة المشابهة كثيرة، ولعل التغطية الإعلامية لحرب غزة الأخيرة في وسائل الإعلام الدولية خير مثال، ويبقى الدور علينا كمشاهدين ومستمعين ومتتبعي الأخبار للتأكد من القصص الواردة مهما كانت مصادرها موثوقة في العُرف الدولي، عبر تنويع المصادر، وتحييد العواطف، وتتبع السياق الأوسع للقصة المذكورة.

 

نشر المقال في جريدة الاتحاد – يوليو 2024 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *