الإعلام.. ساحة الصراع الموازية

الإعلام.. ساحة الصراع الموازية

 

الإعلام بمختلف وسائله وطرقه، يُعد أحد أدوات الدول المعلوماتية التي يتم تطويعها لخدمة مصالحها الوطنية بحسب مستوى التحديات والحاجة إليها. تبرز قوة الدول في المواجهات الإعلامية تماماً كما هي في المواجهات العسكرية، ويتم تخطيط الحملات الإعلامية وتنفيذها بدقة تماثل العمليات العسكرية في تحديد الإمكانيات والأهداف والتوقيت، كذلك تُعد المنصات والشخصيات والرسائل المستخدمة كذخائر يتم استهلاكها أثناء الصراعات، وقد تنفد إذا طال أمد الصراع ولم تُجدد بمحتوى إعلامي فعّال يحقق تقدماً في السرد القائم، ويقنع به جمهوره المستهدف، ويقصي به سردية الخصم.

وللدول في نوعية استخدام الإعلام ومستوى تأثيره في تحقيق مصالحها شؤون، فهناك من الدول الناضجة إعلامياً، وهناك المبتدئة الضعيفة في سرديتها، وبينهم دولٌ تنضج ببطئ، وأخرى استعجلت النضج فتجدهم يتبنون الحيادية أحياناً ثم ما يلبثون إلا وقد فضحهم سلوكهم الإعلامي المنحاز فور المساس بمصالحهم. وهنا تبرز أهمية وجود كياناتٍ إعلامية عليا ومستقلة، ترسم الخطوط العريضة للقطاع، وتضع الخطط الاستراتيجية وتحدد قواعد الاشتباك في أبرز الملفات الحيوية، وتتبنى فن استخدام وسائل الإعلام بمختلف أنواعها فيما يدعم المصالح الوطنية للدولة.

ولعل أبرز الاختبارات تكمن في الصراعات والنزاعات المباشرة، فمعها تبدء أدوات الإعلام بالظهور، من نشرٍ للأخبار والشائعات والمعلومات المغلوطة والمضللة والبروبوجاندا الممنهجة، مما يدخل الحقائق في ضبابية بين سرديات مختلفة، تخدم كل منها طرف على حساب الآخر.

ظل الإعلام النازي يدندن على وتر ضعف الحلفاء حتى قرب سقوط برلين، واستمر إعلام جنوب افريقيا الموالي “للببيض” حينها الحديث عن العدالة الاجتماعية حتى انهياره، المثالين يتمحوران حول حربٍ تخوضها الدولة خارجياً وأخرى داخلياً، وفي كليهما كان الإعلام حاضراً كسلاح بيد الدولة تُضِل به من تشاء، في ساحة موازية لميادين القتال والعنف الجسدي.

ظهور الإعلام الإجتماعي، عزز أهمية الساحة الإعلامية وتفوق السردية وتأثيرها، فتطورت معها الدعاية الإعلامية متخذة أشكال وطرق الأدوات الجديدة، طوعتها أطراف الصراع والنزاع حول العالم لخدمة مصالحها. فكان على سبيل المثال انتشار الأغنية الأذربيجانية ATEŞ لافتاً في وسائل التواصل الاجتماعي إبان الحرب مع أرمينيا، والتي تصور قوة الجيش الاذربيجاني واستعداداته، كذلك الفيديوهات الدعائية الروسية وإبراز قدرة الصواريخ الروسية على تدمير جزيرة بحجم بريطانيا في غضون ثواني، وتراشق مقاطع فيديو التزييف العميق التي ظهر فيها زيلنسكي يعلن استسلامه تارة، وفيديو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وهو يطلب من قواته الانسحاب من أوكرانيا. كل ذلك ومرة أخرى، كان في ساحة نزاع إعلامي يوازي العمليات الميدانية على الأرض.

ما كان يدور في وسائل الإعلام، له أسبابه السياسية وربما دوافعه الميدانية، ويحمل رسائل معينة للطرف المعادي، التداخل قائم، وأثره على سير الأحداث عموماً موجود، ولكن لا دليل ملموس أن أغاني الأذر كانت سبباً مباشراً في نصرهم، أو أن التهديدات الإعلامية الروسية أوقفت بريطانيا من دعم أوكرانيا، فالحملات الإعلامية والرد عليها كانت ضمن ساحة موازية يتم خلالها نقل الرسائل ورفع المعنويات بالتزامن مع العمليات القتالية على الأرض.

الصراعات الاعلامية، أصبحت ساحة صراعٍ منفصلة ضمن الحرب نفسها، تتطلب غرفة عمليات منفصلة، وتحليلٍ ودراسات للبيئة المستهدفة ومحيطها الإقليمي والدولي بشكل منفصل، وفرزاً للإمكانيات والقدرات والحلفاء، وتتطلب خبراء وكوادر مختصين يعملون على المستوى الاستراتيجي والميداني، جنباً إلى جنب مع القيادة السياسية والعسكرية للدول، خصوصاً إذا ما تعلق الأمر بالصراعات والنزاعات المباشرة.

 

نشر المقال في مفكرو الإمارات بتاريخ 27 مايو 2024

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *