خطة طويلة المدى.. والبال!

خطة طويلة المدى.. والبال!

 

ولاية عُرفت بإقامة كبار تجار المخدرات فيها، وانتشار آثار تنافسهم وصراعاتهم بين ضواحيها، وهو ما كان يلطخ سمعتها باستمرار حين الحديث عن أفضل الوجهات العالمية للعيش والاستثمار والسياحة، رغم ما بها من مقومات تضعها في مُقدمة الوجهات العالمية، ورغم محاولة الأجهزة الأمنية الحد من تفشي تجارة المخدرات، إلا أن تلك العصابات كما هو معروف تتخطى أجهزة الدولة أحياناً في القوة والنفوذ.

أخيراً، انتخبت الولاية حاكمها الجديد، الذي قرر حل المعضلة بطريقة جديدة، وفق خطة استراتيجية طويلة المدى، وجه نظره إلى أحد أقوى العصابات، مُحاولاً التقرب من زعيمها موهِماً إياه بفساده، وطمعه بالمال، واستعداده لمساعدة تلك العصابة في تجارتها مقابل الحصول على عمولة مناسبة، وهو ما تم فعلاً، وبشكل تدريجي، ليثمر تعاونهم في النهاية عن ثقة تاجر المخدرات بالحاكم، وهو ما جعله ينتقل بخطته للمرحلة الثانية، رغم تحفظ كبار مستشاريه على مبدأ الموضوع، حيث لاحظ الجميع انشغال الحاكم بقضية المخدرات عن تطوير شؤون وقطاعات الولاية الأخرى، إلا أنه استمر بالمضي في خطته باعتبارها حلاً لـ”أم المشاكل”، وكل ما دونها يهون، على حد وصفه!

أما المرحلة الثانية من الخطة، فكانت إقناع تاجر المخدرات بإمكانية مضاعفة الأرباح، حال تخلصه من منافسيه التجار الآخرين في المنطقة، وهو أمرُ لا يمكن لأجهزة الدولة فعله لوحدها، لكنهم يداً بيد قد يحققون ذلك الهدف! اقتنع التاجر، وبدء بكشف بعض الأسرار المشتركة بين العصابات، ووجه قواه لمواجهة نظرائه تجار المخدرات، ليتمكن بمساعدة الشرطة من الإيقاع بأغلبهم، حتى لم يبقى تاجر مخدرات معروفٍ في المنطقة سواه، فكان بلا شك لقمة سائغة للشرطة الذين تمكنوا منه بكل سهولة، ونجحت استراتيجية الحاكم!

نجاح الحاكم في هذه المهمة يعود إلى استراتيجيته طويلة المدى، التي أثمرت عن الوصول إلى الهدف المنشود، والأمثلة عن خطط مشابهة كثيرة، خطرت في بالي منها تجربة “لي كوان يو” باني سنغافورة المعروف بانتشال بلاده ابان استقلالها من جزيرة تضم مزيجاً من المهاجرين المستضعفين إلى واحدة من أفضل الدول في المنطقة، بفضل خططه الاستراتيجية التي امتدت لأكثر من 30 عاماً، ونتيجتها كانت سنغافورة التي نعرفها اليوم.

ومما لا شك فيه، أن الخطط وحدها لا تكفي، فهي تبقى حبراً على ورق، أو نماذج عرضٍ في حواسيب مغلقة، حتى يترجمها من هو أهلٌ لها، كقائد ناجح أو مسؤول بارز، فالعبرة في كمال التنفيذ وليس التخطيط فحسب، وتبقى التفاصيل اليومية هي التحدي الأبرز في تلك الخطط الطموحة المرسومة على نطاق واسع، حيث يهمل الحالمون بها عادة الوضع الحالي باعتبارها فترة استثنائية لا يجب الاكتراث بها، مكرسين بذلك جُل وقتهم واهتمامهم واستثمارهم في المستقبل الذين يرسمونه.

في زيارتي لأحد الدول العربية قبل سنوات، سألت أحدهم عن خطط رئيسهم الجديد، فقال انه يسعى لانتشال البلاد مما هي فيه، يطور بنيتها التحتية من جسور وأنفاق وشوارع ويبني المدارس والمستشفيات والمرافق العامة، “هو يبني لبعيييد”، ولكننا.. نحتاج لمن يُعيننا اليوم، فنحن بالكاد نجمع قوت يومنا، ولا ندري إن كنا سنعيش حتى نرى ذلك المستقبل!

ذكرني ذلك بتتمة حكاية الحاكم مُحارب تجار المخدات، فقد قيل أنه وخلال فترة انشغاله بمحاربة المخدرات، أهمل العديد من المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والبنى التحتية، كما أن نسب السرقات والجرائم والفساد ازدادت نظراً لتركيز كبار ضباط الشرطة حينها على القضية الكبيرة التي يعملون عليها، وهو ما كان مستشاروه يحذرون منه باستمرار، وهو كذلك ما أثار حفيظة الناس الذين اعتبروه من أسوء حكام الولاية منذ عقود، وما إن جاءت الانتخابات التالية حتى مُني المسكين بخسارة كبيرة جعلته يخسر مقعده وسمعته بين الناس، رغم إنجازه العظيم وإخلاصه في عمله!

ليس من السهل تنفيذ خطة على مستواً عالٍ دون اقناع من حولك بها.. هذا بديهي، لكن أحدهم قد يقول أن بعض محاولات الإقناع هذه قد تستغرق وقتاً وجهداً دون نتيجة تذكر، فكل مجموعة تتألف من شخصين أو أكثر، ستجد فيها خلافاً ولو في أصغر التفاصيل، والالتفات لها سيجعل خطة الـ100 يوم تمتد لتصبح 1,000 يومٍ أو أكثر!

هنا يبرز دور وفكر القائد وموهبته في إدارة الأمور بطريقته، فحتى باني سنغافورة ورغم إيجابيات مرحلته، إلا أن فترته تضمنت الكثير من الأقاويل كمعاملته القاسية لخصومه السياسيين وغيرهم، بداعي ضرورة تثبيت سيادة القانون وإرساء الاستقرار.

 

قيل.. اقتنع بما تريد، وتصرف بما يريده الآخرون!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *