منصب بالإكراه.. والأرزاق مكتوبة!

منصب بالإكراه.. والأرزاق مكتوبة!

 

يقال أنه وقبل الميلاد بأكثر من 600 عام، نُصِب أحد الحكماء قاضياً في بلدةٍ بلا ملك أو حكومة، دون تكليفٍ رسمي أو خطابٍ مختوم، وذلك أن الناس كانوا يجتمعون حوله حباً فيه وثقةً في حكمته وقدرته على حل النزاعات بينهم، مما جعله يتولى ذلك المنصب “عُرفاً”. وبمرور السنوات تعِب الرجُلُ وهرِم، فأختار التقاعد من وظيفته تلك، إلا أن عدم وجود أي شيء رسمي يثبت تقاعده حال دون تفهُم الناس للأمر، وهو ما أدام اللجوء إليه عند الحاجة، وهو كذلك ما جعله يفكر في طريقة للخلاص من الأمر، فقرر أخيراً هجر البلدة والتوجه لغيرها، ليقوم كما نقول هذه الأيام بـ”شراء راحته” رغم مشقة السفر ووحشة الغربة.

هذا القاضي، وكما يبدو في الحكاية، كان قد وصل لأحد أعلى المراتب رغم عدم سعيه لها، ورغم عدم مزاحمته أحداً للظفر بها، أو محاولة الإيقاع بمن حوله بُغية النيل منهم والتفرد بالمكانة المرموقة في المجتمع. كذلك يبدو، أنه لم يحاول ضمان مستقبل أقرباءه وأحباءه لشغل ذلك المنصب والاستحواذ على الجاه، بل على العكس، فمحاولة تهربه من المنصب فسحت المجال لاحقاً لكل من يريد إثبات نفسه وتقلد السلطة، وهو شيء من النادر حدوثه! فهل كان عقل ذاك المُسِن فارغاً من الطموح وحب المال والجاه؟

بالطبع لا، فللحديث بقية.. إلا أن اللافت في الموضوع هنا هو أثر الموهبة أو إتقان حِرفةٍ فريدة في مجال العمل، وهي خِصالٌ وما إن ملكتها في بيئة عملك حتى بات من الصعب التخلي عنك أو حتى تخيل يوم عملٍ واحد دونك، بل انها تعفيك غالباً من أعباء مزاحمة من حولك أو القلق على مصيرك الوظيفي، فهناك دائماً من تتم استشارته إيماناً برأيه السديد رغم عدم وجوده ضمن فريق العمل، وهناك على النقيض من تكون مُجبراً على إضاعة وقتك باستشارته لأن الجلوس معه جزء من خطوات الاعتماد الروتينية الواجب اتباعها!

وبالحديث عن أصحاب المواهب، اذكر ان أحد الزملاء كان مميزاً بكتاباته المتقنة، ورغم تغير الهيكل التنظيمي لمؤسسته لأكثر من مرة، وتغير الأشخاص من حوله، وتغير مسماه الوظيفي ودرجته وحتى مكتبه، واستقدام كُتاب جيدين حوله، إلا أن قادة المؤسسة كانوا يصرون في كل مرة على تواجده الشخصي في العديد من الاجتماعات والمناسبات فضلاً عن السؤال عنه حال تغيبه، وذلك بغية تكليفه شخصياً بالعمل المطلوب غير مكترثين بمسماه الوظيفي الحالي أو درجته أو حتى استشارة مدراءه، حتى قال أحدهم له مازحاً: “حتى لو تغيرت مهنتك وأصبحت عامل نظافة فستظل أنت من يقوم بهذه المهمات”، وهو ما جعل زميلي على ما يبدو في حالة ارتياح دائمة رغم مرور المؤسسة بالعديد من التحديات المقلقة للموظفين من حوله، الذين باتوا ينظرون إليه بنظرة المستشار المُحنك، تماماً كما كان حال ذاك القاضي.

لكن، ومن قال ان قاضي البلدة لم يسع خلف المنصب والشهرة والمال؟ أوليس إنساناً يحب استغلال الفرص إن أتيحت له؟ فالحكاية تقول في تتِمَتِها أن الناس لحِقوا بحكيمهم بعد أن اضطربت البلدة وشاعت فيها الفتن وانتشر بها القضاة المُرتشون، وحاولوا إقناعه بالعودة وتولي منصبه من جديد، عارضين عليه تلبية كل ما يطلبه، ولأن القاضي العجوز كان قد سئم الغربة وذاق من وحشتها الكثير، قرر العودة لكن بفرض شروطٍ جديدة، تنصيبه ملكاً على البلدة، ومبايعة جميع أهلها له، وتشييد قصر ضخم يُنصب في مقدمته تمثال له بصفته ملك البلدة والقصر! وقد كان له ما أراد، واستمرت عائلته في الحكم حتى قيل أن أحد أحفاده كان “سيروس” مؤسس الإمبراطورية الفارسية!

قيل.. كما أن لسانك لا يمكن له النطق لغيرك، فكذلك رزقك لن يذهب لغيرك!

 

صدر المقال في صحيفة الرؤية الإماراتية يوم السبت الموافق 2 يناير 2021.

التعليقات

مقال جميل ومعبره وقدوه لكثيرين ممن تعلو المناصب بفضل اللهً ولايصلح الا الصحيح وبارك اللهً فيك وربي يوفقك والى الامام دائما بإذن الله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *