كهف القرية.. كشماعة المدينة

كهف القرية.. كشماعة المدينة

 

تناقل الفلاحون أساطير مروعة عن كهفٍ تصدر منه أصوات مخيفة، كلما دخله أحدٌ فُقِد، حاكين لأبنائهم قصص الأبطال الذين حاولوا اقتحامه عبر الأزمنة المختلفة، مُحذرينهم من ويلات تكرارها وعدم الجدوى منها. وعبر الأزمنة المتلاحقة، بات أهل تلك القرية وكلما فُقد أو مُس أحدُهم بمكروهٍ قالوا انها إحدى “لعنات الكهف”، وأخذوا يتعوذون منه ويرجون رحمته وعطفه عليهم!

حدث ذات يوم أن توقفت المياه عن التدفق نحو القنوات المائية المحيطة بالقرية، فاتجهت أعين الناس نحو الكهف مُدعين أنه السبب لما له من تأثير على ينابيع المياه، مر الوقت ولم يجد الفلاحون ما يحصدون، فقال الناس إن الكهف هو السبب لما له من نفوذ على التربة، ونظراً لذلك، بدأت تنتشر بعض الأوبئة في القرية، فقال الناس إن الكهف هو السبب فهو من ينفُث الهواء الضار إليهم!

اضطرت القرية لاستيراد المياه والأعلاف، وبدأت الأمور تتجه نحو الأسوأ باشتعال فتنة بين الفلاحين، كادت تودي إلى حرب أهلية طاحنة، وبدل أن يحاول الناس حلها أو التطلع لأسبابها، علل سببها كثيرون بالقدرة الخرافية للكهف على سحر العقول، وتوجيه الناس لمحاربة بعضهم البعض بقصد الاضرار بهم متى شاء.

أخيراً، ظهر رجلٌ رشيد، من قرية مجاورة، سمع بالمشكلة وأراد تقديم العون، قرر حل الخلافات عبر حل مسبباتها، وباستخدام قليلٍ من مزايا العقل البشري، وسواعد أبناء القرية، أصلح ينابيع المياه التي لاحظ انسدادها بفعل الأحجار المتراكمة، مما أدى لتدفق المياه نحو المحاصيل، وبدأ الفلاحون بجني الحصاد، وبالطبع فقد اختفت الأوبئة، وعاد الناس إلى ودهم وتقاسم لقمة عيشهم كما كانوا، ونُصِب ذلك الرجل الغريب زعيماً على القرية نظراً لحكمته وقدرته على حل القضايا وتجنيب القرية للفتن والصراعات، وحين لم يجد الكهف من يستعين به ويرجوه عطفه، عاد كما كان كتلة من الحجارة المثقوبة في منتصفها بلا حولٍ ولا قوة.

في مصطلحاتنا الحديثة، غالباً ما تُسمى الكهوف المماثلة بـ الشماعة، وعليها تُحمل أوزار الخطايا المُرتكبة مُمثلةً محور الشر في أي موضوع كاد أن يكون جيداً لولاها، هي شماعات بعناوين مختلفة، متاحة للاستخدام لجميع الأعمار، وبجميع الأحجام والأشكال والألوان ولمختلف التخصصات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرياضية وحتى المنزلية، تُقدم في قوالب منفردة أو مجموعات مشتركة بحسب الطلب وأهداف الصنع!

ليست سيئة دائماً كما تبدو، فالعديد من المجتمعات تحتاج لوجود شماعات في حياتها، كي تعيش وتتماسك، وتستمر في التطوير والتحسين، فوجود الشماعات تعني وجود حاجة تتطلب تلبيتها، أو فرصة يمكن استغلالها، أو منفعة معنوية أو مادية يمكن تحصيلها، والتي بلا شك لها أصحابها ومنتفعوها!

وكما قيل في نهاية قصة القرية أن انسداد ينابيع المياه كان بفعل فاعلٍ أراد إنعاش تجارته بتوريد المياه والأعلاف للقرية، مُستغِلاً سذاجة أهل القرية وتعظيمهم للخرافات، وهو نفسه الذي وما إن حقق مبيعاتٍ جيدة حتى عاد إلى القرية مُدعياً قدرته على حل المشكلة، ليُنصَب زعيماً براتب ثابت يُقتطع مما يجنيه الفلاحون شهرياً، يغنيه عناء التجارة وذنوب الحيل!

ليست المشكلة في وجود كهوف أو شماعات بيننا اليوم، فهي كثيرة تكاد لا تُحصى، بل المشكلة في تبني البعض لموقف أهل القرية المساكين، وانتظار الفرج القادم من مكان بعيد، لا العكس!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *